تونس تطمح في استعادة موقعها المفقود في قطاع الفوسفات

كشفت الحكومة التونسية عن استراتيجية لإنعاش قطاع الفوسفات بأهداف طموحة للفترة 2025-2030، إذ أشار رئيس الحكومة كمال المدوري إلى الأهمية الاستراتيجية للفوسفات بالنسبة للاقتصاد التونسي وضرورة تحسين حوكمة هذا القطاع.
ويمثل الفوسفات ركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية في تونس، وله تأثير مباشر في الصادرات، وانعكس تراجع الإنتاج منذ أكثر من 14 عاماً بالسلب على الميزان التجاري. ويتمثل الهدف الرئيس للبرنامج المعلن في زيادة الإنتاج السنوي إلى 14 مليون طن بحلول عام 2030، مقارنة بالمستويات الحالية التي تقل بكثير عن ذلك، ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، ينص المخطط على سلسلة من التدابير الرامية إلى تحسين عملية استخراج وتصنيع ونقل الفوسفات. ومن المحاور الاستراتيجية الرئيسة تحديث البنية التحتية وتجديد معدات الإنتاج ووسائل نقل الفوسفات بعد استخراجه، ثم بناء وحدات صناعية جديدة تتمثل في إحداث مرافق معالجة فوسفات متطورة بمدينتي قابس والمظيلة (الجنوب التونسي)، إضافة إلى الاستثمار في الحلول التكنولوجية عن طريق دمج التقنيات الحديثة لتحسين الأداء.
وأشار المخطط الى خلق أسواق تصدير جديدة بتنويع الشركاء التجاريين لزيادة المبيعات الدولية، علاوة على تحسين ظروف العمل في المناجم ومصانع التحويل، فضلاً عن تعزيز التدابير البيئية، لا سيما من خلال إعادة تدوير المياه المستعملة لغسل الفوسفات.
وتناولت الاستراتيجية الجديدة وضعية المجمع الكيماوي التونسي وهو شركة عمومية متخصصة في إنتاج وتحويل الفوسفات المستخرج في تونس إلى منتجات كيماوية مثل حمض الفوسفوريك أو الأسمدة، وتعد الفاعل الرئيس في صناعة الفوسفات، ويهدف برنامج إعادة هيكلتها للفترة 2025-2030 إلى تحسين ربحية وحدات الإنتاج من خلال زيادة تدريجية تصل إلى 80 في المئة من طاقتها القصوى بحلول عام 2028، وإنشاء وحدات صناعية مبتكرة تشمل مصنع حامض الفوسفوريك ومصنعاً متخصصاً لإنتاج الأسمدة، وتطوير إنتاج الأمونيا الخضراء لتعزيز التحول البيئي وتقليل الاعتماد على الأسمدة الكيماوية المستوردة، وإعادة تدوير النفايات الصناعية، بخاصة من خلال استخدام الجبس الفوسفوري مادة خام قابلة لإعادة الاستخدام بدلاً من التخلص منها كنفايات.
ومن أجل الحوكمة الأمثل، سيجرى إنشاء هيئة مراقبة دائمة لضمان التنفيذ السليم لخطة التعافي هذه، وسيجرى التركيز على تحسين الأداء اللوجستي، لا سيما من خلال إعادة تأهيل البنية التحتية لنقل الفوسفات، وبخاصة شبكة السكك الحديدية، وتحسين عمليات التخزين والتصدير للحد من الخسائر وترفيع القدرات الإنتاجية.
ومن خلال هذا البرنامج الطموح، تعتزم تونس استعادة القدرة التنافسية لقطاع الفوسفات وضمان العودة التدريجية إلى إنتاج مستقر ومستدام، ويعد هذا الانتعاش ضرورياً لتعزيز الاقتصاد التونسي وضمان التنمية المتوازنة للمناطق المنتجة، خصوصاً في الحوض المنجمي (منطقة الاستخراج بقفصة بالجنوب الغربي) وقابس (وحدة التحويل بالجنوب الشرقي).
قرض كويتي
وكانت الحكومة التونسية قدمت مشروع قانون إلى البرلمان للحصول على قرض بقيمة 10 ملايين دينار كويتي أو نحو 35 مليون دينار تونسي (11.2 مليون دولار) من الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، ويهدف هذا الطلب، الذي يدرس حالياً من قبل لجنتي المالية والتخطيط الاستراتيجي، إلى تحديث البنية التحتية للسكك الحديدية، وهو عنصر أساس في إعادة إطلاق صناعة الفوسفات.
وبلغت شبكة السكك حالاً من التدهور بحكم عدم تحديثها منذ أكثر من 40 عاماً.
قبل 2011، كان نقل الفوسفات بالسكك الحديدية يمثل نحو 40 في المئة من إيرادات الشركة التونسية للسكك الحديدية (عمومية)، بحجم سنوي يبلغ 8 ملايين طن، وأدى انخفاض إنتاج الفوسفات إلى انخفاض كبير في النقل بالسكك الحديدية وخسائر للشركة العمومية. وتهدف الحكومة إلى زيادة إنتاج الفوسفات إلى 6 ملايين طن بحلول عام 2025، ولتحقيق هذا الهدف، يعد تحديث شبكة السكك الحديدية أمراً ضرورياً، ومن المفترض أن يمول القرض المطلوب تجديد 50 كيلومتراً من خطوط السكك الحديدية، في إطار برنامج أوسع لتحديث النقل بالسكك الحديدية للفوسفات وتحسين القدرة التنافسية للقطاع.
وسجلت شركة فوسفات قفصة (الشركة العمومية لاستغلال الفوسفات ومقرها في محافظة قفصة بالجنوب الشرقي وفي عام 1994 ضمت إلى المجمع الكيماوي) ارتفاعاً ملحوظاً في إنتاجها من الفوسفات التجاري عام 2024 ليصل إلى 3.03 مليون طن، ما يعد تحسناً مقارنة بالعام السابق، عندما بلغ الإنتاج 2.9 مليون طن، ومع متوسط شهري يبلغ نحو 250 ألف طن، تظهر علامات الانتعاش بعد سنوات عرفت التحديات الاقتصادية والاجتماعية.
وتأمل الحكومة في أن تمثل هذه الزيادة في الإنتاج في عام 2024 بمثابة خطوة أولى نحو إنعاش مستدام لقطاع الفوسفات، الذي يمثل جزءاً كبيراً من الصادرات التونسية، وفي السنوات الأخيرة، واجهت شركة فوسفات قفصة عديداً من العقبات، بما في ذلك الحركات الاجتماعية، وانقطاع النشاط بالكامل، وحالت البنية التحتية واهتراء المعدات دون استعادة الإنتاج بعد الهدوء الاجتماعي الذي حقق في الفترة الأخيرة، وللتغلب على هذه التحديات، اعتمدت الشركة استراتيجية للتحديث لتحسين أدائها. ومن بين التدابير الرئيسة، اقتناء معدات جديدة، وتحسين عمليات الإنتاج، وتعزيز الموارد البشرية.
وبلغ إنتاج الفوسفات في تونس 8.1 مليون طن في عام 2010، وهو رقم قياسي، إلا أنه شهد منذ 2011 تقلبات ملحوظة، وشهدت السنوات اللاحقة انخفاضاً، وتراوحت المستويات بين 2.4 مليون طن في عام 2011 و4.4 مليون طن في عام 2017، إذ شهد نسق الإنتاج انهياراً بين عامي 2010 و2011، عندما انخفض من 8.1 إلى 2.4 مليون طن، أي بانخفاض 70 في المئة تقريباً.
ملف الحوكمة
ويعاني قطاع الفوسفات في تونس من إشكال هيكلي يتعلق أساساً بالحوكمة نتيجة القرارات الترقيعية غير الموجهة لمعالجة الوضع المتراكم وفق المتخصص في التنمية حسين الرحيل.
ويعد إثقال شركة فوسفات قفصة بالآلاف من العمال والموظفين الإضافيين أول إشكال إداري، وأدى إلى ارتفاع كتلة الأجور من دون مقابل على مستوى الانتاج بعد أن تم توظيفهم استجابة لمطالب اجتماعية بحتة كان من المفترض حلها عن طريق خلق مشاريع تنموية خارج شركة الفوسفات.
ولا يزيد العمال المنتجون فعلياً على 4400 عامل، في حين أن الشركة توظف نحو 9000 عامل ينضوون تحت الشركة مقابل تقديم أنشطة أخرى لا علاقة لها بالفوسفات تحت مسميات مختلفة، بعدما حادت المؤسسة عن وظيفتها في اتجاه مهام اجتماعية استنزفت موازناتها، إضافة إلى ملفات الفساد و ارتفاع مستوى المديونية والاحتقان الاجتماعي الذي أوقف النشاط لفترات طويلة، وتحتاج التجهيزات ومعدات الإنتاج حالياً إلى تحديث ثلث أسطولها بكلفة تفوق 340 مليون دينار (109 ملايين دولار) للعودة إلى نسق نشاطها، في مخطط 2023-2025، ببلوغ 12 مليون طن من الإنتاج عام 2025.
وفشلت جميع القرارات التي اتخذت في دفع الملف إلى الحل على رغم اتخاذ قرارات مماثلة زادت على 105 قرارات منذ عام 2012.
وأضاف الرحيلي أن الحلول لا تتوقف عند تدوير النفايات والمياه المستعملة بحكم أن تعطيل الإنتاج ناتج من افتقار الشركة إلى الاستثمارات وضخ الأموال وتجديد الأسطول، إضافة إلى الإشكاليات التقنية، كذلك يظل النظر في الحاضنة الاجتماعية بمحافظة مناجم الفوسفات أمراً ضرورياً لضمان إطار اجتماعي هادئ بعيداً من التوترات التي تسببت فيها إشكاليات تنموية بحتة، على ألا يجرى السقوط في الخلط بين المسؤولية المجتمعية للمؤسسة ومهام الدولة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكشف الرحيلي أن تونس خسرت ترتيبها بين رواد منتجي الفوسفات في العالم نتيجة غرق منطقة المناجم وشركة فوسفات قفصة والمجمع الكيماوي في موجة من الاضطرابات طالت إلى 13 عاماً، ما يهدد تونس بالخروج من التصنيف العالمي لإنتاج الفوسفات، بعدما تراجعت من المرتبة الخامسة عالمياً في عام 2010 إلى المرتبة العاشرة في عام 2023.
وتتوزع صادرات تونس بين 80 في المئة من الفوسفات المحول والحوامض و20 في المئة من الفوسفات التجاري، وتتجاوز تونس بذلك منافسها المباشر المغرب الذي يصدر 50 في المئة فقط من الفوسفات المحول.
وتراجع ترتيب تونس من ثاني منتج للحامض الفوسفوري في العالم بـ650 ألف طن وأول منتج لثلاثي الفوسفات الرفيع بـ1.2 مليون طن، الأمر الذي كبدها خسائر تزيد على 25 مليار دينار (7.9 مليار دولار)، وقد دأب قطاع الفوسفات على تحقيق مداخيل سنوية للدولة التونسية تبلغ ملياري دينار (320 مليون دولار) في الفترة السابقة عام 2011، إذ بلغت العائدات السنوية لشركة فوسفات قفصة 4.5 مليار دينار (1.4 مليار دولار) في السنة خلال الفترة السابقة عام 2010.
وقال الرحيلي إن تونس لم تتمكن من استغلال ارتفاع الأسعار الحالي، في ظل عدم وجود حلول حقيقية بسن قرارات اعتبرها مجرد إجراءات ترقيعية غير معالجة لجوهر الأزمة، ما يحرم البلاد من أهم مصدر للعملات بإنتاج 30 في المئة فحسب من القدرات الاجمالية.