عربي

الاقتصاد العالمي يلتقط أنفاسه لجولة جديدة من التحديات .. الطريق غير ممهد بعد في 2024

دق عام 2024 الأبواب ومعه توقعات الخبراء الاقتصادية لما هو آت، قد تتباين التقديرات والترجيحات بينهم عندما يتعلق الأمر بالتفاصيل، لكن أغلب الآراء تشير في جوهرها إلى مزيد من تباطؤ النمو العالمي بشكل أكثر من عام 2023، وذلك تحت وطأة أسعار الفائدة المرتفعة، لكن دون أن يعني هذا التباطؤ أن الاقتصاد الدولي سيصاب بالركود.
تعود تلك الاستنتاجات إلى أنه بعد عامين من صراع البنوك المركزية والحكومات مع التضخم خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، فإن السياسة النقدية المتشددة قد وصلت إلى نهايتها، إذ يصعب أن يكون رفع أسعار الفائدة مسارا عاما يتبناه الاقتصاد الدولي عام 2024، وإن كانت بعض البلدان لا يزال لديها هامش من الحركة في هذا الاتجاه، ولربما تواصل رفع أسعار الفائدة في محاولة لوضع حد للتضخم الذي يلقي بثقله على تكلفة المعيشة.
لكن توقع عدم رفع أسعار الفائدة عام 2024، لا يعني أن الآثار المترتبة على رفعها عام 2023 قد اختفت أو تلاشت، بل على العكس تماما إذ تبدأ تلك الآثار في الظهور بشكل محسوس في العام الجديد.
هنا يقول لـ”الاقتصادية” الدكتور كريس جون أستاذ الاقتصاد الدولي في مدرسة لندن للتجارة: “توقعاتي بالنسبة لعام 2024 أن يكون هناك مزيد من التركيز على التوازن بين متانة النمو حتى إن لم تكن المعدلات مرتفعة وثبات التضخم والعمل على خفض معدلاته، وبينما يتوقع أن يراوح معدل نمو الاقتصاد العالمي بين 2.6 و2.9 في المائة، فإننا نتوقع أن يتراجع التضخم ليراوح بين 7 و 6.8 في المائة هذا العام إلى 5.7 في المائة”.
وأضاف قائلا: “يتوقع أن يكون النمو عام 2024 أقوى في الولايات المتحدة والأسواق الناشئة الكبيرة، بينما تتراجع المعدلات في الصين ومنطقة اليورو”.
في المقابل، تلك التقديرات تجعل توم ريتشارد الخبير المصرفي، يرى أن البنوك المركزية ستواصل التركيز عام 2024 على استقرار الأسعار، بوصف أن ذلك التحدي الرئيس الذي تواجهه.
وقال لـ”الاقتصادية”: إن “البلدان المختلفة تواجه توقعات مختلفة بشأن معدل التضخم لديها، وكل دولة ستعمل على تبني سياسة نقدية تتناسب مع سرعة التعافي الاقتصادي لديها، خاصة مدى ارتفاع أو انخفاض التضخم لديها، وستسعى البنوك المركزية إلى إعادة بناء شبكات الأمان المالي، وسيترافق ذلك مع جهود أكثر وضوحا في الاقتصادات الناشئة لتقليص المعوقات البنيوية التي تعيق النمو، وهذا سيكون ضروريا لخفض الديون”.
مع هذا لا تغيب النبرة التفاؤلية لدي عديد من الخبراء بشأن المشهد الاقتصادي المتوقع عام 2024، وسط تقديرات تشير إلى أن “الجزء الأصعب” قد مر.
بدورها، ذكرت لـ”الاقتصادية” ماري ألن الخبيرة الاستثمارية والاستشارية في عدد من صناديق التحوط: إن “الاقتصاد العالمي عام 2024 سيقطع خطوة أخرى في طريق مزيد من التوازن بين العرض والطلب على السلع، والأكثر أهمية أن التوازن بين العرض والطلب في سوق العمل سيستمر في التحسن، واحتمالات الركود ستكون أقل كثيرا في الولايات المتحدة”.
وتابعت “سيبرز عام 2024 استعداد المستهلكين للاستمرار في الاعتماد على فائض المدخرات لديهم، ومن المفترض أن يؤدي ارتفاع الأجور الحقيقية إلى تعزيز الاستهلاك”.
مع هذا تظهر ماري درجة من درجات التحفظ بتحذير البنوك المركزية بإعلان انتصار سابق لأوانه في المعركة ضد التضخم، ولهذا ترى أن أسعار الفائدة ستبقى ثابتة عند مستوياتها الراهنة لبعض الوقت.
وتبدو سوق العمل الدولية من الأسواق التي تتمتع بآفاق طيبة وواعدة عام 2024، إذ يتوقع أصحاب العمل في جميع أنحاء العالم انتعاش التوظيف في الربع الأول من العام المقبل، ولربما يكون النقص في المهارات والمواهب هو العامل الوحيد الذي سيؤثر سلبا في سوق العمل الدولية.
من ناحيته، أوضح لـ”الاقتصادية” ريبن ريد الباحث السابق في منظمة العمل الدولية وأستاذ اقتصادات العمل في جامعة جلاسكو، أن “توقعات صافي التوظيف في الربع الأول تبلغ 26 في المائة بزيادة 3 في المائة على أساس سنوي، لكن بانخفاض 4 في المائة عن الربع الأخير من عام 2023”.
واستدرك أن “التوظيف سيكون في أقوى معدلاته في أمريكا الشمالية بنسبة 34 في المائة، تليها آسيا والمحيط الهادئ بنسبة 30 في المائة، وأوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا 23 في المائة”.
وحول أبرز القطاعات الاقتصادية التي ستقوم بالتوظيف، قال: “قطاع تكنولوجيا المعلومات سيكون أفضل القطاعات توظيفا على المستوى الدولي، بنسبة زيادة 36 في المائة يليه القطاع المالي والعقاري بنسبة 34 في المائة وخدمات الاتصالات بنسبة 31 في المائة والرعاية الصحية وعلوم الحياة والصناعة بنسبة 28 في المائة”.
وأضاف “عالميا سيزيد الطلب على العمالة المختصة خاصة في البلدان المتقدمة وتحديدا في تكنولوجيا المعلومات والبيانات والهندسة والمبيعات والتسويق”.
وأشار إلى أن “نقص المواهب أحد التحديات الأكثر إلحاحا عام 2024، وتلك المشكلة مستمرة منذ أعوام عدة ولا تقتصر على مناطق معينة، كما أنها تشكل عقبة كبيرة أمام نمو الأعمال”.
أحد إيجابيات المشهد الاقتصادي المتوقع عام 2024، أن يتراجع أو حتى يختفي الانفصال الذي شاهده العام الحالي بين أداء الاقتصاد العالمي وأداء التجارة العالمية، ففي عام 2023 نما الاقتصاد العالمي بنحو 3 في المائة تقريبا، بينما لم يزد نمو التجارة الدولية على 0.8 في المائة.
هذا المشهد ووفقا لبيانات منظمة التجارة العالمية سيتغير، إذ يتوقع أن يرتفع نمو التجارة العالمية إلى 3.3 في المائة مع نمو مستقر للناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 2.5 في المائة، وهذا يعني أن التجارة العالمية ستكون أسرع نموا من الناتج المحلي الإجمالي، وستكون القارة الآسيوية المنطقة الأسرع نموا في كل من الصادرات والاستيراد على المستوى الدولي.
وهنا ترى الدكتورة آبي أندرسون أستاذة التجارة الدولية في جامعة لندن، أن هذا التحسن في التجار الدولية سيظل يواجه بخطاب رافض للعولمة، وهو الخطاب الذي اكتسب زخما سياسيا واقتصاديا في الأعوام الأخيرة.
وقالت لـ”الاقتصادية”: إن “الخطاب القومي الشعبوي في المجال السياسي هيمن على عديد من البلدان، وأسهم في تنامي الأفكار الحمائية التي يتوقع أن تواصل النمو عام 2024، يضاف إليه الضغوط التضخمية في الاقتصاد الدولي والصراعات الجيوسياسية”.
وتلقي الدكتورة آبي أندرسون بالمسؤولية في ذلك على الإدارة الأمريكية وتبنيها ما تصفه بـ”سياسة الردع عن طريق الحرمان” لتقييد الخصوم وهو النهج الذي اتبعته مع روسيا والصين، حيث تستخدم قيود مراقبة الصادرات على التكنولوجيا والسلع ذات الاستخدام المزدوج كوسيلة لمنع خصومها من التقدم.
أشارت إلى أن خلفية التجارة العالمية في العام الجديد قائمة على الصراع، ويمكن أن يشهد العالم مزيدا من العقوبات التجارية وتشديدا لأنظمة مراقبة الصادرات.
ووسط تلك التقديرات، يرى عدد ملحوظ من الخبراء أن بعد عام من الإنجازات الكبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي، فإن المستثمرين والشركات الدولية سيعملون عام 2024 على مزيد من دمج الذكاء الاصطناعي في منظومة الاقتصاد والتجارة الدوليين. وسيحقق الذكاء الاصطناعي مزيدا من الازدهار، ما يساعد في نهاية المطاف على زيادة الإنتاجية العالمية، بل ربما يرسي اللبنات الأولى للمساعدة في مواجهة التحديات الناجمة عن التركيبة السكانية غير المواتية في بعض الاقتصادات المتقدمة مثل اليابان وألمانيا. وترتبط تلك الرؤية للدور الذي سيلعبه الذكاء الاصطناعي عام 2024 بتساؤلات حول الصناعات التي يمكن أن تكون لديها فرص استثمارية أكبر؟
من جانبه، ذكر أندي مارتن رئيس قسم البحوث في اتحاد الصناعات البريطانية، أن “صناعة أشباه الموصلات والشركات التي تنتج معدات لتصنيع أشباه الموصلات وهي الأجهزة التي يقوم عليها بناء الذكاء الاصطناعي بالكامل، ستكون موضع التركيز في العام الجديد”.
وأضاف لـ”الاقتصادية” أن “الإنفاق الرأسمالي على أحدث المعدات المستخدمة لإنتاج أشباه الموصلات، سيتزايد، ويرجع ذلك إلى تقدم الذكاء الاصطناعي الذي يتطلب تصاميم جديدة للرقائق وإعادة إنتاج أشباه الموصلات من قبل البلدان المتقدمة للمساعدة في مرونة سلاسل التوريد الخاصة بها”.
وأشار مارتن إلى أن الرعاية الصحية صناعة ستحظى أيضا بكثير من الاهتمام، نظرا لتنامي قدرة الذكاء الاصطناعي على تحويل البيانات البيولوجية المعقدة إلى رؤية ذات معنى، وسيترتب على ذلك تطوير في صناعة الأدوية والتكنولوجيا الطبية والرعاية الصحية الرقمية، وبذلك سيكون العام الجديد مليئا بالفرص الاستثمارية الأكثر ارتباطا بالذكاء الاصطناعي.
دخل العالم عام 2024 ومناخ من التفاؤل النسبي يهيمن على رؤية كثير من الخبراء بأن المشهد الاقتصادي سيكون أفضل، تلك الصورة المشرقة تعزز من مناخ الثقة لدى رجال الأعمال والمستثمرين والشركات الكبرى، ثقة ربما تحفزهم على ضخ مزيد من الاستثمارات في الأسواق.
لكن تلك الصورة الإيجابية لا يجب أن تنسينا أن الطريق غير ممهد بعد، وأن هناك كثيرا من التحديات أمامنا، ربما يكون أكثرها شراسة معدلات تضخم تعاند في تراجعها، وتواصل ممارسة الضغط على مستويات المعيشة وتكلفة الحياة اليومية لمئات إن لم يكن مليارات من البشر، ومعدلات نمو تعاند هي الأخرى في أن تحلق إلى مستويات أعلى.
مع هذا، فإن الأجواء الإيجابية التي تحيط بالتوقعات الاقتصادية للعام الجديد، ربما تسهم بشكل أو بآخر في ترطيب الأجواء وتهدئتها نسبيا بما يمكن الاقتصاد العالمي من التقاط أنفاسه لجولة جديدة لمصارعة ما يواجه من صعوبات.


Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى