هرب المستثمرين يهدد مستقبل التكنولوجيا المتقدمة في إسرائيل
مع استمرار اليأس الاقتصادي لدى كثير من الإسرائيليين جراء استمرار الحرب منذ أكثر من عام من دون أفق لعودة الحياة لطبيعتها، يشعر إيلي مردخاي (35 سنة) أن قطاع التكنولوجيا الفائقة الإسرائيلي الذي يعمل فيه بمنطقة الجليل شمال إسرائيل الذي كان يتسم بالحيوية والشفافية أصبح مملاً، ومعظم زملائه وأصدقائه في الشركة قرروا مغادرة إسرائيل والعمل في الخارج. فالفجوة المتسعة مع الولايات المتحدة وحتى أوروبا، من حيث القيمة والنشاط، تشكل حالياً أحد المخاوف الرئيسة لهذه الصناعة، خصوصاً وأن التحديات الاقتصادية التي تواجهها إسرائيل ستستمر بحسب التوقعات في التأثير في البلاد لأعوام مقبلة، وهو ما يجعل من الصعب على إيلي وغيره من الإسرائيليين تحقيق استقرار اقتصادي قريب في ظل الظروف الحالية. وألقت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بظلال قاتمة على مستقبل منطقة الجليل الواقعة قرب الحدود مع لبنان التي تعد وفق ما كتب المستثمر الإسرائيلي في مجال التكنولوجيا إيرئيل مارغاليت “مركزاً للابتكار والعمل والمرونة”.
واستثمرت الحكومة الإسرائيلية عام 2018، أكثر من 100 مليون شيكل (ما يقارب 27 مليون دولار) في منطقة الجليل، من أجل تعزيز الصناعات التقنية، ضمن خطة “ازدهار الشمال”، ودعمت هيئة الابتكار الإسرائيلية شركات متخصصة هناك بنحو 6 ملايين دولار تقع على مسافة 10 كيلومترات من الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، إضافة إلى منح بقيمة قاربت مليوني دولار.
وفي عام 2022 شكل قطاع التكنولوجيا الفائقة 18.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل ونحو نصف صادراتها و30 في المئة من عائدات الضرائب، ليصبح هذا القطاع، وفق بيانات هيئة الابتكار الإسرائيلية، أكبر مساهم في الناتج المحلي. وتضاعف إنتاج القطاع من 126 مليار شيكل (34.15 مليار دولار) في 2012 إلى 290 مليار شيكل (78.6 مليار دولار) في 2022، ومثلت صادرات قطاع التكنولوجيا الفائقة في العام نفسه ما نسبته 48.3 في المئة من إجمالي الصادرات الإسرائيلية بقيمة 71 مليار دولار، بنمو 107 في المئة مقارنة بالمسجل في عام 2012. وبينت الأرقام أن نحو 500 ألف موظف في إسرائيل يعملون بهذا القطاع في نحو 6 آلاف شركة، ويفوق نصيب الفرد الإسرائيلي من الشركات التقنية الناشئة أية دولة أخرى في العالم.
كارثة حقيقية
وفق تحذيرات أطلقها خبراء إسرائيليون، يمر الاقتصاد الإسرائيلي الذي مزقته الحرب اليوم في كارثة حقيقية ستجره إلى الركود وتعرض الأمن القومي للخطر، خصوصاً بعد أن حشد الجيش أكثر من 300 ألف جندي احتياط للمشاركة في الحرب، وتقدر شركة “إس إن سي” الإسرائيلية أن نحو 10 في المئة من موظفي التقنية جندوا، مع ارتفاع العدد إلى 30 في المئة في بعض الشركات، بحسب ما ذكرت منصة “فوربس” في تقرير لها. وبحسب تقرير نشره معهد “سياسات الأمة الناشئة”، فإن 70 من الشركات التقنية أبلغت عن وقوع أضرار في عملياتها، إذ إن أكثر من 40 في المئة من الشركات تأخرت أو ألغت اتفاقات استثمارية، في حين تمكن 10 في المئة فقط من عقد اجتماعات مع المستثمرين، الذين اضطروا بسب طول أمد الحرب واستدعاء موظفيهم للخدمة الاحتياطية في الجيش، إلى تحويل استثماراتهم إلى الشركات الناشئة الأميركية والأوروبية. وتتحدث المؤشرات الاقتصادية وفقاً لما جاء في ورقة “سياسات تقييم” يوئيل نافيه، الذي شغل سابقاً منصب كبير الاقتصاديين في وزارة المالية الإسرائيلية، عن إفلاس أكثر من 46 ألف شركة، بعد أن جرى تحويل غالبية الأموال المستثمرة في صناديق الاستثمار الإسرائيلية إلى استثمارات في الخارج، ليس فقط كنتيجة لتدهور السياحة في إسرائيل وانخفاض التصنيف الائتماني، بل لأن السندات الإسرائيلية أصبحت تباع بأسعار تقارب مستويات “السندات غير المرغوب فيها”، وفق تعبيره. وبحسب أحدث تقرير صادر عن مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، انخفضت الاستثمارات الأجنبية في الربع الأول من العام الحالي بنسبة 55.8 في المئة، وهو أدنى مستوى منذ الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2021. وذكر تقرير لمجلة “لوبوان” الفرنسية أن الأمر لم يقتصر على الاستثمارات المالية الخاصة بالتكنولوجيا العالية، بل لرغبة كثيرين في الحد من الأخطار من خلال تجنب الاستثمار بدولة في حالة حرب، تضر بمشاريعهم أو تقوض تطورها. ووفقاً لتقرير هجرة الثروات لعام 2024 الذي أصدرته شركة استشارات هجرة الاستثمار الدولية “هينلي أند بارتنرز” في الـ18 من يونيو (حزيران) 2024، خرجت إسرائيل من قائمة الدول الـ10 الأوائل التي يهاجر إليها أصحاب الملايين للمرة الأولى منذ عقود عدة، مؤكدة أن الحرب الحالية لم تشوه “صورة إسرائيل” كملاذ آمن لهذا النوع من المستثمرين الأجانب فحسب، بل تشكل أيضاً تهديداً للنتائج الاقتصادية. وأبدى المستثمرون في شركات إسرائيلية، بحسب تقرير لصحيفة “غلوبس” الإسرائيلية، حذراً في شأن وضع أموالهم في الشركات الإسرائيلية، إذ ذكر التقرير أن 48 في المئة من المؤسسات توقعت انخفاضاً في النشاط الاستثماري في العام المقبل. وذكرت “هآرتس” الاسرائيلية أنه “منذ اندلاع الحرب خسرت إسرائيل استثمارات بمبلغ 60 مليار شيكل (16.2 مليار دولار).
ضربات اقتصادية
بالنسبة إلى الدوائر الاقتصادية الإسرائيلية، فإن الشركات الكبرى والبنوك التي كانت تدعم إسرائيل باتت تبتعد عن شراء السندات الحكومية الإسرائيلية وعن صناديق الاستثمار الرأسمالية. ومثل إعلان شركة “إنتل” للمعالجات الدقيقة الأميركية العملاقة مطلع سبتمبر (أيلول) الماضي تعليق مشروع توسيع مصنع أشباه الموصلات التابع لها في “كريات غات” نقطة سوداء لدى كثير من الإسرائيليين، كيف لا وهي أكبر مستثمر أجنبي في إسرائيل، وتعتبر العمود الفقري للصناعات التكنولوجية المتقدمة، وأهم حاضنة محلية لصناعة قاعدة المهارات البشرية العالية في قطاعات التكنولوجيا المحلية، وتسهم وحدها بما يقرب من اثنين في المئة من إجمالي الناتج المحلي الإسرائيلي، ونحو ستة في المئة من إجمالي صادرات قطاع التكنولوجيا المتقدمة. وتعد إسرائيل من حيث حجم الأصول الدولة الثالثة التي تستقر فيها شركة “إنتل” بعد الولايات المتحدة وأيرلندا.
نتيجة لهذا التعليق اختفى الاستثمار الإضافي لإسرائيل، الذي بلغ 15 مليار دولار، الذي وعدت به علناً في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وتوظف الشركة الأميركية العملاقة التي دخلت إسرائيل منذ 50 عاماً ما يقرب من 12 ألف شخص، وتحتل أحد أبرز وأهم المواقع الرائدة في تطوير الصناعات المبتكرة. وتدير أربعة مواقع للتطوير والإنتاج، تشمل مصنعها (فاب 28) للصناعات التحويلية في “كريات غات” الذي ينتج تقنية “إنتل 7” أو رقائق حجمها 10 نانومترات. وكان من المقرر افتتاح المصنع الجديد (فاب 38) في 2028 وتشغيله حتى عام 2035. نتيجة لذلك اضطرت شركة مقاولات كبرى في إسرائيل لإبلاغ البورصة بتأثر نتائج أعمالها نتيجة تقليص “إنتل” أنشطتها، إذ لديها تعاقد مع الشركة بقيمة تزيد على 100 مليون شيكل (26.7 مليون دولار)، كما أن هناك مقاولين من الباطن في إسرائيل تمثل شركة “إنتل” 100 في المئة من نشاطهم. وبجانب ذلك امتدت الأضرار إلى خدمات النقل والأمن والمطاعم في “كريات غات”، إذ يخلق مصنع الشركة هناك آلاف فرص العمل في عدد من الأنشطة. ولم تتوقف الضربات المؤلمة للاقتصاد الإسرائيلي عند تعليق “إنتل” مشروعها الضخم، فذكرت صحيفة “فاينانشال تايمز” منتصف أغسطس (آب) الماضي، أن بنك “باركليز” البريطاني الذي يعد أحد سبعة مقرضين أجانب يساعدون الحكومة الإسرائيلية في بيع ديون جديدة، تخلى عن تسويق السندات الإسرائيلية كجزء من محاولة لتهدئة الانتقادات في شأن علاقاته مع إسرائيل خلال الحرب في غزة. كما سحب صندوق الثروة السيادي النرويجي وصندوق التقاعد الدنماركي بنسيون (Danske Bank) استثماراتهم بالكامل من جميع البنوك الإسرائيلية، محذرين من “حال عدم اليقين الخطرة” في السوق. في حين قررت شركة نيلسن (Nielsen) الأميركية المتخصصة في المعلومات والبيانات وقياس السوق، إغلاق فرعها في إسرائيل.
تحديات جديدة
وفق تقرير نشرة “ستارت أب نيشن” في تل أبيب، ويتناول وضع الشركات الناشئة بالتركيز على قطاع التقنية، فإن الشركات الإسرائيلية تعاني “عدم اليقين المالي” بسبب الحرب. ولكبح هذه التحديات، أعلنت هيئة الابتكار الإسرائيلية تخصيص 100 مليون شيكل (26.7 مليون دولار) في شكل منح ومساعدات لتزويد نحو 100 شركة ناشئة تعاني ضائقة مالية، لمواجهة التحديات التي تفرضها الحرب الإسرائيلية على غزة. ويشير تقرير لـ mondoweissالتي تصدر في الولايات المتحدة الأميركية، في الـ19 من يوليو (تموز) الماضي، إلى أن قطاع التكنولوجيا “يبحث عن الصفقات في الخارج، ولكنه لا يجدها”. وجاء تقرير صدر في الفترة الأخيرة عن جمعية الصناعات التكنولوجية المتقدمة في إسرائيل (IATI) بالتعاون مع معهد الأبحاث والسياسات الإسرائيلي (RISE)، ليقدم صورة أكثر كآبة عن حالة التكنولوجيا الفائقة في إسرائيل بعد عام من الحرب، ويؤكد تراجع تصنيفها في تصنيف الذكاء الاصطناعي العالمي الذي تعده مؤسسة “تورتويز ميديا”، من المركز السابع إلى التاسع خلال العام الماضي، بعد أن كانت تحتل المركز الخامس في عام 2021 وفق ما ذكرته صحيفة “غلوبس” الإسرائيلية. وأشار التقرير إلى أن 76 في المئة من الشركات التي نجحت في جمع تمويل كبير تتخذ من خارج إسرائيل مقراً لها، مما يثير مخاوف في شأن قدرة إسرائيل على الحفاظ على تنافسيتها وريادتها في قطاع التكنولوجيا الفائقة.
ونقلت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” عن الرئيس التنفيذي لهيئة الابتكار الإسرائيلية درور بن قوله إن “قطاع التقنية الفائقة، الذي يواجه انخفاضاً في حجم الاستثمار ويتأثر بالأزمة الحالية، يحتاج إلى التمويل بصورة عاجلة، إذ يصعب إجراء جولات تمويل جديدة”. وأظهرت البيانات المنشورة في الصحيفة ارتفاع عدد الإسرائيليين الذين غادروا إسرائيل بصورة دائمة بنسبة 285 في المئة منذ بدء الحرب على غزة. وهو ما أكده أيضاً مكتب الإحصاء المركزي (CBS)، الذي أشار إلى أن هناك زيادة غير مسبوقة في عدد المهاجرين من إسرائيل منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023 مقارنة بالفترة نفسها من عام 2022. ويتوقع اقتصاديون إسرائيليون أن الحكومة الإسرائيلية في أمس الحاجة إلى إجراءات عاجلة للتعامل مع الأزمة وإنهاء الحرب واستعادة ثقة الجمهور في المؤسسات العامة في إسرائيل وإصلاح علاقاتها الخارجية. وقال كبير الاقتصاديين السابق في وزارة المالية يوئيل نافيه، إن إسرائيل “بحاجة إلى التحرك بقوة وبإجراءات فورية لصياغة سياسات مسؤولة لعام 2025 لدرء خطر حدوث أزمة تلوح في الأفق”. وأكد أن هذه الأزمة “ستجر الاقتصاد الإسرائيلي الذي مزقته الحرب إلى الركود وتعرض الأمن القومي للبلاد للخطر”. من جانبه قال الباحث في “معهد أبحاث الأمن القومي” في جامعة تل أبيب استيفان كلور، بحسب ما نقلت عنه صحيفة “غلوبس” الإسرائيلية، إن “هناك عواقب مؤلمة لاستمرار موازنة أمن مرتفعة، لأنها تأتي على حساب أمور أخرى”، وأضاف “ثمة أهمية كبيرة لقيام الحكومة بإدارة بقية بنود إنفاقها لصالح مصادر داعمة للنمو الاقتصادي”، محذراً من أن “تقليص الموازنات الموجهة إلى محركات النمو، تضع الاقتصاد الإسرائيلي في وضع خطر وغير مستقر”. بدوره قال الرئيس التنفيذي لمعهد الأبحاث والسياسات الإسرائيلي أوري جاباي إن “الحرب التي أوجدت عاصفة كاملة تهدد مستقبل التكنولوجيا الفائقة في إسرائيل، يجب أن تدفع الحكومة الإسرائيلية لتبني رؤية واضحة تلهم المستثمرين ورواد الأعمال، وتتبنى سياسات اقتصادية مسؤولة وتقلل من العزلة الدولية”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تصنيف سلبي
وقال تقرير لوزارة الخارجية الأميركية في الـ22 من يوليو الماضي إن الحرب ألحقت أضراراً اقتصادية بالغة بإسرائيل، إذ انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 20.7 في المئة بين أكتوبر وديسمبر 2023. وتتوقع الوزارة أن ينمو عجز الموازنة في عام 2024 بسبب النمو الاقتصادي الأقل من المتوقع والتكاليف غير المتوقعة للحرب ودعم الإسرائيليين الذين فروا من منازلهم بالقرب من غزة أو على طول الحدود اللبنانية.
وفي صدمة أصابت صناع السياسات الاقتصادية الإسرائيلية، أعلنت وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني خفض تصنيف إسرائيل من A2 إلى Baa1 دفعة واحدة، ليحصل الاقتصاد الإسرائيلي على أدنى مستوى له على الإطلاق. فيما أبقت على توقعاتها للتصنيف عند “سلبي” وسط تفاقم الصراع في المنطقة بين تل أبيب و”حزب الله” اللبناني. والتصنيف الائتماني الجديد الذي قدمته “موديز” لإسرائيل يعني جدارة ائتمانية ضعيفة، وأخطاراً عالية تحيط بالمالية العامة والاقتصاد الإسرائيلي. كما تتجه وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني إلى إجراء تقييمات جديدة حول الاقتصاد الإسرائيلي خلال الربع الأخير من العام الحالي، وسط توقعات بخفض التصنيفات كذلك. ويرى مراقبون أن أية أدوات دين جديدة ستصدرها إسرائيل لن تكون جاذبة للمستثمرين من الدول والشركات، إذ بلغ عجز الموازنة الإسرائيلية نحو 8.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتعادل هذه النسبة وفق أحدث تقارير المحاسب العام لوزارة المالية الإسرائيلية “يالي روتنبرغ” الصادر في أغسطس الماضي، ما قيمته 155.2 مليار شيكل (47.1 مليار دولار). في حين بينت أرقام وبيانات “بنك إسرائيل” أن نسبة الدين الإسرائيلي البالغة 70 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، تعادل ما قيمته 370 مليار دولار، وهو رقم يفوق احتياطات إسرائيل من النقد الأجنبي، البالغة نحو 200 مليار دولار.