كيف تجنبت تونس روشتة “النقد الدولي” الصعبة؟
في وقت اعتقد فيه العديد من المتخصصين في الاقتصاد أن تونس ستواجه صعوبات مالية جمة جراء قرار وقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي في عام 2022، خصوصاً بعد غلق باب التعاون الثنائي ومتعدد الأطراف في مسألة الاقتراض، كشفت دراسة حديثة صدرت مطلع يناير (كانون الثاني) الجاري أن تونس لا تزال صامدة وتجنبت جزئياً وصفة الصندوق “الموجعة”.
وخلصت نتائج دراسة أعدها مؤسس مركز “علي بن غذاهم” للعدالة الجبائية (مستقل) أمين بوزيان إلى أن تونس نجحت ولو جزئياً في تجنب وصفة صندوق النقد الدولي الموجعة في علاقة برفع الدعم ووقف الانتدابات وتقليص كتلة الأجور.
وقال بوزيان إلى “اندبندنت عربية”، إن “الدراسة التي أطلقت في العام الماضي وأعلنت نتائجها في يناير الجاري، أكدت أن تونس نجحت نسبياً في أخذ مسافة من صندوق النقد الدولي ورفض شروطه وإملاءاته.
رفض قطعي
يشار إلى أن تونس وصندوق النقد الدولي توصلا في 15 أكتوبر (تشرين الأول) 2022 إلى اتفاق على مستوى الخبراء وكانت على أعتاب الحصول على قرض بـ1.9 مليار دولار موزع على أربع شرائح سنوية مشروطة بتطبيق جملة من الإملاءات والضوابط فرضها الصندوق، قبل أن يتدخل الرئيس التونسي قيس سعيد ويعلق المفاوضات في مرحلتها الأولى ثم تخلي عنها نهائياً، مبرراً ذلك بأن شروط وإملاءات الصندوق تهدد السلم والأمن الاجتماعي للبلاد.
إلى ذلك، طالب الصندوق من تونس آنذاك وقف الانتدابات الحكومية وتقليص تدرجي لدعم المحروقات والكهرباء إلى حين تحرير أسعار هاتين المادتين نهائياً في عام 2026 مع رفع الدعم عن المواد الأساسية، خصوصاً الغذائية منها وتعويضها بنظام الحوالات أو التحويلات المالية.
منظومة دعم
ويعتبر الباحث أمين بوزيان أن الهدف من إنجاز الدراسة هو إظهار مدى جدوى المحافظة على منظومة دعم أسعار المحروقات والمواد الأساسية والكهرباء أو التوجه نحو البديل التي تدعو إليه المؤسسات المالية العالمية وهو رفع الدعم كلياً وتعويضه بنظام التحويلات المالية.
وأكد أن تونس رفضت إملاءات وشروط صندوق النقد الدولي الذي يؤكد رفع الدعم نهائياً بحلول 2026، موضحاً أن البلاد أخذت مسافة من هذا التوجه، وواصلت سياسة الدعم بل رفعت من مستوى منظومة دعم الأسعار من 4 مليارات دينار (1.2 مليار دولار) في 2019 إلى 12 مليار دينار (3.8 مليار دولار) في 2022.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح أن “تونس نجحت جزئياً في الرد على الوصفة التقشفية لصندوق النقد الدولي الذي يطلب التحكم في التوازنات المالية وتقليص الإنفاق العمومي”، متابعاً أن البلاد نجحت في عدم تطبيق تلك الوصفة التقشفية التي لها أخطار كبيرة أظهرتها الدراسة، بل تمكنت في ظرف وجيز من بلوغ أهداف التحكم في كتلة الأجور من 116.1 في المئة إلى 13 في المئة متوقعة في 2025.
وأشار إلى أن تونس راهنت على البعد الاجتماعي عكس الرؤية الليبرالية الخالصة للمؤسسات المالية العالمية ولصندوق النقد الدولي من خلال إقرار زيادات في الأجور الدنيا في القطاع الحكومي وفي القطاع الفلاحي وللمتقاعدين علاوة على تطور النفقات وتطور الموازنة.
التحكم في عجز الموازنة
في مستوى آخر، أبرز بوزيان أن تونس نجحت خلال السنوات الأخيرة في التحكم في عجز الموازنة والنزول به من 7.4 في المئة من الناتج الداخلي الإجمالي في 2023 إلى 6.3 في المئة في 2024، ومستهدف أن تهبط إلى 5.5 في المئة في 2025، على رغم أن برنامج صندوق النقد في حال تطبيقه كان يتوقع بلوغ هذه المستويات في عام 2026.
وفي سياق متصل، لفت إلى أنه للمرة الأولى أوقفت الحكومة المنحى التوسعي للتداين مقارنة بالناتج الداخلي الخام إثر ابتعاد تونس عن صندوق النقد الدولي.
خيار التعويل على الذات
وعلى رغم أن الغياب شبه الكلي للخروج على الأسواق المالية العالمية، إلا أن تونس اختارت التعويل على الذات من خلال المراهنة على الاقتراض من السوق الداخلية، إذ يرى الباحث أن شعار التعويل على الذات يظل أمراً محموداً غير أنه يبقى أمراً منقوصاً، لا سيما على المستوى الضريبي على رغم النهج الإصلاحي المحقق في الغرض، داعياً الحكومة إلى بذل جهود إضافية لتعزيز العدالة الضريبية التي من شأنها أن تعزز قدرتها في الاعتماد على مواردها الذاتية.
واعتبر موزيان أن الجهود الإصلاحية في المجال الضريبي من شأنها أن تعزز قدرة البلاد على مواصلة سياستها الاجتماعية بإقرار إجراءات أكثر جرأة وقوة.
سابقة تاريخية
ومن جهتها، ترى سحر مشماش باحثة في السياسات الضريبية أن “مسألة دعم أسعار المواد الأساسية وبخاصة منها الغذائية تحتل صدارة النقاشات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، ولا سيما في مفاوضات الحكومة مع صندوق النقد الدولي”.
وتعتقد أن تمسك تونس بالحفاظ على منظومة الدعم يعود في جانب كبير منه إلى رفض برنامج صندوق النقد وما نجم عنه من تباعد وفتور لافت في العلاقة ما بين الطرفين منذ ما يزيد على ثلاث سنوات على رغم الحضور الملحوظ للصندوق منذ عام 2012 عبر برنامجين سابقين عرف الثاني فشلاً ذريعاً.
وقالت الباحثة إن “السادس من أبريل (نيسان) 2023 شكل منعطفاً كبيراً في علاقة تونس بالصندوق الدولي عندما رفضت برنامج الصندوق نهائياً مما شكل سابقة تاريخية في العلاقة ما بين تونس والصندوق التي تعود لعام 1986 تاريخ أول برنامج هيكلي سطره الصندوق لتونس”.
وأوضحت مشماش أنه في ظل مناخ عالمي سلبي أتسم بتداعيات فيروس “كوفيد-19” والنزاع المسلح الروسي- الأوكراني مما ولد ضغوطاً مضاعفة على موازنة والبلاد، اختارت تونس مساراً مغايراً لتوجهات صندوق النقد بالحفاظ على دعم الأسعار.
خطة إنعاش الاقتصاد
وحول إنعاش الاقتصاد التونسي قال بوزيان إن “خطة إنعاش الاقتصاد ترتكز على الاستثمار العام ليكون بمثابة القاطرة لبقية القطاعات الأخرى”، مطالباً بتعبئة الموارد المالية الضرورية لتمويل خطة الإنعاش الاقتصادي”، موضحاً أن “تعبئة الموارد المالية تكون داخلية وتحديداً الموارد الضريبية”، مشدداً على أن هناك مجالاً واسعاً لزيادتها من دون إثقال كاهل الطبقات الضعيفة والمتوسطة بتفعيل مثلاً الضريبة على الثروات الكبرى التي أقرت في قانون المالية في 2023، وأشار موزيان إلى أنه بقدر ما تبتعد الحكومة عن إملاءات المؤسسات المالية العالمية بقدر ما هو أفضل للصالح العام وللعدالة الضريبية.