عالمي

تحول في ميزان قوى الاقتصاد العالمي في انتظار الفائز بالانتخابات الأميركية

في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1992 وصلت الولايات المتحدة إلى ذروة قوتها العالمية بعدما انهارت الشيوعية وسقط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، فيما جرى استخدام روسيا كحقل تجارب لسياسات “العلاج بالصدمة” التي تفرضها السوق الحرة. وفي الوقت ذاته فتح تحرير الاقتصاد الصيني الباب أمام الشركات الأميركية متعددة الجنسيات لنقل الإنتاج إلى الخارج، مما أطلق عصر العولمة بقيادة الولايات المتحدة.

في ذلك الوقت كان اثنان من الليبراليين الدوليين يتنافسان على الرئاسة، جورج بوش الأب وبيل كلينتون، وفي النهاية تغلب كلينتون على بوش الرئيس الجمهوري حينها، بعدما انتزع رجل الأعمال الأميركي والمرشح المستقل لانتخابات الرئاسة الأميركية عامي 1992 و1996، روس بيرو المناصر لسياسات الحماية الاقتصادية أصواتاً من الجمهوريين أكثر مما أخذ من الديمقراطيين.

ومنذ دخل كلينتون البيت الأبيض كأول رئيس من جيل طفرة المواليد قبل 32 عاماً تغير كثير من الأمور، وبينما يستعد الأميركيون للذهاب إلى صناديق الاقتراع اليوم الثلاثاء يدركون أن بلادهم لا تزال صاحبة أكبر اقتصاد وأقوى جيش في العالم، إلا أن تفوقها لم يعد بلا منازع، والنظام العالمي أحادي القطب الذي أعلن بوش قيامه عام 1991 في نهاية حرب الخليج الأولى قد انهار.

وفي تسعينيات القرن الـ20 انتشرت أفكار حول عالم خالٍ من سيطرة الدولة، إذ تتحرك الأموال والسلع والأشخاص بحرية من دون أي قيود. وأزيلت القيود على حركة رأس المال، وأصبحت البنوك المركزية المستقلة هي من يحدد أسعار الفائدة، فيما كانت منظمة التجارة العالمية تعمل على كسر الحواجز التجارية والإشراف على النظام التجاري العالمي.

لكن سرعان ما بدأت الأوضاع التدهور، فالتحرر غير المقيد لرأس المال وقلة الرقابة قادا إلى سلسلة من الأزمات المحلية التي تحولت إلى أزمة عالمية كبرى مع انهيار البنوك عام 2008، وازداد حجم وقوة الاقتصاد الصيني إلى مستوى فاق توقعات الولايات المتحدة، وأثبتت منظمة التجارة العالمية عجزها عن التوصل إلى صفقات تجارية جديدة، وفي الوقت نفسه بدأ الناخبون يشعرون بالسخط نتيجة النمو البطيء وإزالة التصنيع والهجرة المكثفة، بينما كشف وباء “كوفيد” عن هشاشة سلاسل التوريد العالمية.

مع ذلك، عادت الدولة القومية للظهور، مصحوبة بسياسات صناعية نشطة وإجراءات حمائية، ولم تستمر رؤية بوش لعالم يسير على خطى الولايات المتحدة سوى عقد واحد فحسب، قبل أن تبدأ الأزمات والتحديات بإعادة تشكيل النظام العالمي بصورة مختلفة.

“بريكس علامة على العصر”

وكانت قمة “بريكس” التي استضافها فلاديمير بوتين الشهر الماضي علامة على العصر، ففي الأصل كانت مجموعة من خمس دول: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، ورحب الاجتماع في قازان بأربعة أعضاء جدد: مصر وإثيوبيا وإيران والإمارات، وحضرت بضع عشرات أخرى في الأقل، بما في ذلك السعودية وتركيا وإندونيسيا، بصفة مراقبين، وهي دول مهتمة أيضاً بالانضمام إلى النادي.

اهتمام بوتين بتوسيع مجموعة “بريكس” أمر سهل الفهم، فهو يرسل رسالة مفادها أن روسيا ليست معزولة، على رغم من العقوبات المفروضة والمشددة منذ حربها على أوكرانيا قبل عامين ونصف العام.

وفي الوقت الحالي لا توجد فرصة حقيقية لطموح بوتين في إنشاء عملة “بريكس” كمنافس للدولار الأميركي، فالدولار مستقر وقابل للتحويل بسهولة وهو لا يتعرض لتهديد فوري، كما أن دولاً مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا ليست على استعداد لقطع العلاقات مع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية، بل تريد بدلاً من ذلك أن تبقي قدمها في المعسكرين.

ولا تزال قازان تحتفظ بأهميتها لثلاثة أسباب رئيسة: أولاً، أثبتت أن العقوبات لم تسفر عن انهيار الاقتصاد الروسي، وربما لن تؤدي إلى ذلك أبداً، إذ وجدت روسيا في الصين والهند عملاء راغبين في شراء نفطها، وأظهر الاقتصاد الروسي كذلك مرونة قوية في مواجهة الضغوط، وعلى رغم صعوبة اعتراف الحكومات الغربية بذلك، فإن روسيا قادرة على مواصلة القتال لفترة طويلة، بل إنها تحرز تقدماً في الحرب.

ثانياً، أظهرت قازان أن اقتصادات الأسواق الناشئة الكبرى ترفض الانصياع للضغوط الغربية، ولا يقتصر هذا على روسيا فحسب، بل يشمل أيضاً الصين، التي تخشى من احتمالية أن تفقد فرص الدخول إلى الأسواق الغربية بسبب التعريفات الجمركية وغيرها من القيود التجارية.

تعريفات ترمب ونهج هاريس الأقل صرامة

تقول صحيفة “الغارديان” إنه في حال فوز دونالد ترمب الثلاثاء فقد تعهد فرض تعريفات جمركية بنسبة 60 في المئة على جميع الواردات الصينية إلى الولايات المتحدة، مما يمثل ضربة قاسية، إذ سجلت الصين عام 2022 فائضاً تجارياً 400 مليار دولار مع الولايات المتحدة، ومع ذلك يتبنى الديمقراطيون أيضاً موقفاً صارماً تجاه الصين.

من جانبها ستواصل كامالا هاريس، في حال انتخابها، النهج الصارم لكن الأقل قسوة الذي اعتمده جو بايدن خلال ولايته، والذي شمل فرض رسوم جمركية بنسبة 100 في المئة على المركبات الكهربائية الصينية، إلى جانب حظر الاستثمارات وفرض العقوبات على شركات التكنولوجيا الصينية.

وتضيف الصحيفة أنه على رغم أن الصين تسعى إلى تحويل نموذج نموها ليعتمد على الاستهلاك المحلي، فإنها ما زالت اقتصاداً يعتمد بشدة على التصدير، وفي حين تحتاج الصين إلى أسواق لتصريف سلعها التي تنتج في مصانعها، وعلى رغم أن دول “بريكس” ليست بديلاً كاملاً عن الأسواق الغنية في أميركا الشمالية وأوروبا، فإنها تضم أهم الدول ذات الدخل المتوسط.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والسبب الأخير كما تقول الصحيفة وراء أهمية قازان يكمن في تسليطها الضوء على النفوذ المتزايد للجنوب العالمي ونفاد صبره، إذ يمثل هذا الجنوب غالبية سكان العالم وحصة متزايدة من الاقتصاد العالمي. وأشارت إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي المشترك لدول مجموعة السبع: الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا، من 67 في المئة عام 1994 إلى 44 في المئة عام 2022، بينما تضاعف الناتج المحلي الإجمالي للصين إلى 20 في المئة خلال الفترة نفسها.

إخفاق النظام العالمي الجديد

وتقول الصحيفة إنه كان من المفترض أن يجلب النظام العالمي الجديد الازدهار للجميع، لكنه أخفق في تحقيق ذلك، وبحسب البنك الدولي، توقف التقدم في مكافحة الفقر العالمي بفعل الأزمات المتعددة من حروب وارتفاع الديون والأوبئة وتغير المناخ. وأصبحت اليوم الدول الغنية غير قادرة أو غير راغبة في مواجهة هذه الأزمات المركبة، فيما تتصرف مجموعة الدول السبع والغرب بصورة عامة، كما لو أنها ما زالت تسيطر على النظام الاقتصادي كما كانت الحال في 1944 عندما أنشئ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي خلال مؤتمر “بريتون وودز”.

لكن هذا العالم تغير، فاليوم نعيش في اقتصاد عالمي مختلف، إذ تتعرض هيمنة الغرب لأكبر تحد منذ 500 عام، بغض النظر عن نتيجة السباق إلى البيت الأبيض.




Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى