عالمي

أزمة غذاء كبرى في بريطانيا ومعاناة التسوق ستزداد سوءا

في الماضي، كان ارتياد متاجر السوبرماركت في بريطانيا مجرد روتين يومي. وكان الفرد يزور المتجر ويشتري ما يحتاج إليه من مواد، من ثم يدفع ثمنها ويغادر. وقد يتذمر في بعض الأوقات من ارتفاع كلفة الجبن، لكنه في الأقل كان يعرف أن الجبن متوافر. أما الآن؟ فالأمر مختلف تماماً. الزبدة أصبحت على وشك الاختفاء، والبروكلي بات نادراً، وحظاً سعيداً إن وجدت زجاجة عصير برتقال لا تكلفك بقدر نصف ليتر من البيرة في حانات حي سوهو وسط لندن.

الرفوف خاوية والأسعار في ارتفاع مستمر والطعام الذي كان في متناول الجميع أصبح شراؤه عبئاً على كثر، لكن هذه ليست مجرد أزمة عابرة أو خللاً موقتاً بعد الجائحة، بل مسألة تنذر بتحول كبير قد يواجهه المستهلكون. وإن لم تتخذ خطوات جادة فقد تجد بريطانيا نفسها أمام أزمة غذائية غير مسبوقة، من شأنها أن تجعل النقص في الطماطم الذي ارتبط بالخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي يبدو مشكلة بسيطة مقارنة بما هو آت.

من الواضح أن الطقس يفاقم الأزمة

لا شك في أن الذين خرجوا أثناء أي وقت خلال العام الماضي لاحظوا أن الجو كان رطباً وماطراً في غالب الأحيان. وهذه ليست أخباراً سارة بالنسبة إلى المزارعين. فخلال العام الماضي واجهت إنجلترا أحد أسوأ مواسم الحصاد على الإطلاق، عندما ألحقت أمطار غزيرة وموجات برد عاتية ومفاجئة الضرر بكثير من المحاصيل. ففي مزرعة “ساندريج بارتون” – وهي مزرعة عنب في مقاطعة ديفون جنوب غربي إنجلترا – انخفض إنتاج العنب بنسبة 70 في المئة، وهي ضربة كبيرة للمؤسسات التي تعتمد بالكامل على محصول العنب.

ولم يكن مزارعو القمح أفضل حالاً. فقد أسفر تراجع الإنتاج عن نقص في إمدادات الدقيق، مما دفع بأسعار الخبز إلى الارتفاع، وأصبح فطور الصباح أكثر كلفة. وفي الوقت نفسه اختفى البروكلي والقرنبيط – اللذان يكونان عادة في أوج وفرتهما أثناء مثل هذه الفترة من العام – وذلك نتيجة موسم زراعي كارثي داخل إسبانيا وإيطاليا. وعانت هاتان الدولتان اللتان تعدان من أبرز مزودي بريطانيا بالخضراوات الطازجة برداً قارساً وأمطاراً غزيرة غير معتادة، مما تسبب في تقليص صادراتهما وجعل الأسواق البريطانية تواجه شحاً كبيراً في الإمدادات.

النتيجة؟ تواجه محال السوبرماركت صعوبة في توفير حتى أبسط أنواع الخضراوات. وإذا ما تمكن المستهلك من العثور على البروكلي، فمن المحتمل أن يدفع ثمناً أعلى من المعتاد لشرائه. وإذا لم يجده؟ ربما عليه أن يتعود على العيش من دونه.

 

لكن في حين أن أزمة المناخ تزيد من تقلبات الطقس، يرى مدير التوريد والتقنيات في شركة “ريفرفورد” Riverford المتخصصة في صناديق الخضراوات العضوية لوك كينغ أن المشكلة تتجاوز ذلك بكثير. ويقول “صحيح أن الطقس القاسي يجعل ظروف الزراعة أكثر صعوبة، لكن جوهر المشكلة يكمن في النظام الغذائي الصناعي نفسه. نحن في حاجة لتغيير جذري في المنظومة بأكملها – نظام يقدر الكلفة الحقيقية لإنتاج الغذاء الصحي، ويدعم المزارعين الذين يعملون بتناغم مع الطبيعة، لا ضدها”.

وفي غياب إصلاح حقيقي وتغيير جذري سيصبح هذا النقص أكثر تكراراً، ولن يقتصر تأثيره في المستهلكين فحسب. فالمزارع لا يمكنه الاستمرار في العمل على هوامش ربحية ضئيلة إلى الأبد. وإذا لم نبدأ بإعطاء الأولوية للاستدامة والمرونة بدلاً من المكاسب السريعة وقصيرة الأجل، فإن الأزمة الحقيقية ستكون عندما لا يبقى لدينا ما يكفي من المزارع البريطانية لزراعة غذائنا على الإطلاق.

هانا برينسدن رئيسة تنسيق السياسات في “مؤسسة الغذاء” Food Foundation (وهي جمعية خيرية تعنى بتغيير سياسة الغذاء لضمان تحمل الجميع كلف نظام غذائي صحي والحصول عليه)، ترى أن هذه المشكلة ما هي إلا جزء من صورة أكبر. وتقول “كما أوضح ’تقرير الأمن الغذائي‘ Food Security Report الذي أصدرته الحكومة البريطانية العام الماضي، فإن الجغرافيا السياسية وتغير المناخ ومفاعيل ’بريكست‘، جميعها أثرت في أمننا الغذائي الوطني”. وتتابع “في الوقت نفسه، أسهمت كلف المعيشة وارتفاع أسعار الغذاء في زيادة كلفة الطعام، مما أدى إلى انتشار انعدام الأمن الغذائي، وأصبح الوصول إلى الأنظمة الغذائية الصحية أمراً بعيد المنال بالنسبة إلى كثر”.

الواردات ليست حلاً

على رغم الجهود التي تبذلها شركات مثل “ريفرفورد” في دعم المنتجات المحلية تظل بريطانيا غير مكتفية ذاتياً من الناحية الغذائية، مما يجعلها عرضة لتقلبات الأسواق العالمية. لذا، عندما تحدث اضطرابات في أماكن أخرى يشعر المستهلك بتأثيرها هنا. فقد أدى الحصاد الكارثي للحمضيات في ولاية فلوريدا الأميركية وداخل البرازيل، الذي تضرر بسبب الأمراض والطقس القاسي، إلى نقص حاد في عصير البرتقال. ونتيجة لذلك اضطرت علامات تجارية كبرى مثل “إينوسينت” Innocent و”تروبيكانا” Tropicana لتقنين الإمدادات. وإذا ما أصبحت رفوف العصائر شبه خاوية، فالسبب بات معروفاً الآن.

هذه المسألة تتكرر في مختلف القطاعات. فقد أدى النقص العالمي في الألمنيوم إلى تراجع إنتاج العلب، مما حد من توافر البيرة. وفي الوقت نفسه تضاعفت أسعار القهوة والكاكاو بفعل الطقس القاسي الذي دمر محصوليهما في أبرز مناطق زراعتهما. فكيف سينعكس ذلك على قهوتك الصباحية وقطعة الشوكولاتة التي تلجأ إليها في الأوقات العصيبة خلال النهار؟ كلاهما على وشك أن يصبح أغلى بكثير.

حتى المكونات الأساس للطهي لم تسلم من الأزمة، فزيت عباد الشمس بات أكثر ندرة وأسعار الزبدة تواصل ارتفاعها، فيما تلحق بها أسعار لحوم البقر. والحقيقة واضحة، كلما اشتدت أزمة المناخ زادت صعوبة إنتاج الغذاء.

تداعيات “بريكست” والإضرابات وانخفاض القوى العاملة

يعتمد قطاع إنتاج الغذاء على عمالة مستقرة، لكن بريطانيا تعاني نقصاً حاداً في القوى العاملة. فقد أدى الخروج من الاتحاد الأوروبي إلى نزوح عدد كبير من العمال الزراعيين، بينما لا يجد أولئك الذين ما زالوا داخل البلاد حوافز كافية للبقاء. والنتيجة بدأت تتكشف، فقد حذرت شركة “آرلا” Arla – وهي أكبر مورد للألبان في المملكة المتحدة – من أن المزارعين يقلصون حجم قطعانهم، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الزبدة. وفي الوقت نفسه، تسببت الإضرابات في مصنع “باكافور” Bakkavor داخل بلدة سبالدينغ، الذي يزود كبرى متاجر السوبرماركت بالصلصات والحساء وصلصات المعكرونة، بنقص في المواد الغذائية خلال احتفالات عيد الميلاد العام الماضي.

هذه هي حال الأمور الآن، إذ يمكن لإضراب مصنع واحد تعطيل فئة كاملة من المنتجات، مما يشير إلى مدى هشاشة سلسلة التوريد.

ثم هناك مسألة التجارة، فالولايات المتحدة تدرس فرض رسوم جمركية تصل إلى 24 في المئة على بعض الأطعمة المستوردة، وهي خطوة إن طبقت ستؤدي إلى مزيد من الارتفاع في الأسعار. ومع وصول كلف المعيشة إلى نقطة الانهيار يبقى السؤال المقلق، إلى أين يقودنا كل هذا؟

أزمة متفاقمة

وصلت معدلات تضخم أسعار الغذاء في بريطانيا إلى أعلى مستوياتها منذ نحو 45 عاماً، ولا يبدو أن هناك أي انفراج قريب في الأفق.

وتقول هانا برينسدن من “مؤسسة الغذاء”، “على مدى الأعوام الثلاثة الماضية ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنحو 26 في المئة، ووجد المسح الذي أجريناه في شأن انعدام الأمن الغذائي أن 13.6 في المئة من الأسر عانت خلال شهر يونيو (حزيران) عام 2024 من انعدام الأمن الغذائي. وترتفع هذه النسبة إلى 18 في المئة بين الأسر التي لديها أطفال”.

 

وتحاول المتاجر الكبرى التخفيف من وقع الأزمة من خلال “التضخم الانكماشي” Shrinkflation – أي تقليل حجم المنتج مع الإبقاء على السعر نفسه – لكن المتسوقين ليسوا سذجاً، فهم يدركون تماماً متى تصبح علبة المعكرونة أصغر حجماً بمجرد النظر إليها.

ويقول كينغ “على مدى عقود، أوحت متاجر السوبرماركت للمستهلكين بأنهم يحصلون على “منتج غذائي زهيد الثمن”. لكن الحقيقة أن هذه الكلف لا تتلاشى، بل تظهر في مواضع أخرى، سواء عبر تدني أجور عمال المزارع أو في تراجع جودة الغذاء، أو في تفاقم الضرر البيئي”.

ويشير إلى أن هذه الحقائق غالباً ما تخفى وراء ما يسميه “التجميل الزراعي” Farmwashing، وهو تكتيك تسويقي مضلل تستخدمه المتاجر الكبرى لإعطاء انطباع بأن المنتجات تأتي من مزارع عائلية صغيرة، بينما تنتج فعلياً على نطاق صناعي واسع، مع الحد الأدنى من الشفافية حول المعايير البيئية أو الأخلاقية المعتمدة. ويضيف “هذا الغياب للشفافية يبعد المستهلكين من حقيقة مصدر غذائهم، ويدفع بعدد من المزارع الصغيرة إلى حافة الهاوية”.

ومع تناقص الإمدادات وارتفاع الأسعار تواجه بنوك الطعام طلباً غير مسبوق عليها من الناس، بحيث تجد أسر مصاعب حتى في تأمين الضرورات الأساس لأفرادها.

ويقول ريتشارد سميث رئيس قسم إمدادات الغذاء في “مشروع فيليكس” The Felix Project، وهو مؤسسة خيرية تجمع الفائض من الطعام وتعيد توزيعه على الجمعيات الخيرية “إن أكبر المخاوف لدينا يتمثل في ضمان حصولنا على ما يكفي من الغذاء لتلبية الحاجة المتزايدة للدعم. فارتفاع كلف الغذاء يدفع بمزيد من الناس إلى الاعتماد على بنوك الطعام، ومن المؤسف أن هذه المؤسسات باتت ترزح تحت وطأة الضغوط”.

 

وفي المقابل، تتزايد المخاوف من أن يؤدي النقص في الغذاء إلى إشعال فتيل الاضطرابات في البلاد.

وقد يبدو الأمر درامياً ومبالغاً فيه، لكن تكفي مراجعة التاريخ. فعندما يصبح الغذاء باهظ الكلفة لا يكتفي الناس بالتذمر بل يحتجون، وأحياناً يثورون. وهناك سبب لوجود عبارة “الخبز والسيرك” Bread and Circuses، فعندما تفشل الحكومات في تأمين الغذاء لشعوبها، تسود الفوضى (العبارة استخدمها الشاعر جوفينال في روما القديمة، للإشارة إلى ممارسة توفير الطعام والترفيه للناس لإبقائهم راضين، عندما تُهمل حاجاتهم السياسية أو الاجتماعية).

ما الذي يمكن عملياً القيام به؟

تعهدت الحكومة البريطانية بتخصيص 5 مليارات جنيه استرليني (6 مليارات و350 مليون دولار أميركي) لدعم المزارعين في المملكة المتحدة، لكن معظم العاملين في القطاع يرون أن هذا المبلغ غير كافٍ على الإطلاق لتلبية الحاجات الفعلية. وينبه قادة القطاع إلى أن البلاد في حاجة لاستراتيجية متماسكة للأمن الغذائي قبل أن تتفاقم الأزمة. ومن الحلول المقترحة إعادة إصدار تأشيرات للعمال الموسميين، لتمكين المزارع البريطانية من إنتاج الغذاء بصورة فعالة.

وهناك حل آخر يتمثل في تعزيز البدائل المحلية للواردات من الخارج، مثل الموجة الجديدة من العلامات التجارية البريطانية للمعكرونة، التي قد تساعد في سد الفجوة التي خلفتها الواردات الإيطالية مرتفعة الكلفة. وإلى جانب ذلك هناك اهتمام متزايد بالزراعة العمودية، بحيث تزرع المحاصيل في بيئات مغلقة تحت إضاءة اصطناعية مما قد يحدث تحولاً كبيراً في إنتاج المواد الطازجة.

لا بل يذهب بعض الخبراء إلى اقتراح العودة إلى نموذج المقاصف المدعومة على غرار ما كان معمولاً به في زمن الحرب، بحيث يتاح للناس الحصول على وجبة متكاملة بسعر منصف. فقد أطلق رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل خلال أربعينيات القرن الماضي “خدمة المطاعم الوطنية” National Restaurant Service لهذا الغرض تحديداً، فلماذا لا يعاد إحياؤها اليوم؟

وتحذر السيدة برينسدن من أنه “لا يوجد حل واحد كفيل بمعالجة الأزمة”، مؤكدة أنه “على الحكومة اتخاذ مجموعة إجراءات حاسمة إذا كانت جادة فعلاً في تحقيق أهدافها، للحد من الاعتماد المتزايد على الطرود الغذائية، ودعم نشوء جيل يتمتع بصحة أفضل من أي وقت مضى”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتضيف أن الحلول تشمل دعم المزارعين المحليين في المملكة المتحدة، والحد من الاعتماد على الدول الأكثر عرضة لصدمات المناخ، إلى جانب تحسين قدرة المستهلكين على الوصول إلى أغذية صحية بأسعار معقولة، وتعزيز برامج الوجبات المدرسية المجانية لمساندة الأسر ذات الدخل المنخفض.

ويؤيد كينغ هذا الطرح بقوة، فهو يقف بثبات إلى جانب المزارعين البريطانيين في مطالبتهم بـ”تسعير أكثر إنصافاً، وشفافية أوسع ودعم أقوى للزراعة المستدامة”. ويشدد على أن “إرساء نظام غذائي مرن يتطلب قبل كل شيء، دعم المزارع والشركات الغذائية التي تسهم في بناء هذا النظام”.

إذا كان هذا هو الواقع الجديد فلا بد لبريطانيا من الاستيقاظ

في الوقت الراهن، قد يبدو النقص في الغذاء مجرد مشكلة موقتة أو إزعاجاً بسيطاً، أو أمراً يشتكي منه الأفراد أثناء انتظارهم في صفوف متاجر السوبرماركت. لكن حان الوقت للنظر إليه على حقيقته،: إنه جرس إنذار.

قضية تغير المناخ لن تختفي، ولا يبدو أن النقص في اليد العاملة في طريقه للتحسن. ومع مواصلة بريطانيا الاعتماد المفرط على الواردات، فإنها ستبقى عرضة لصدمات عالمية كبيرة في إمدادات الغذاء قد تهدد استقرارها.

ولا يزال هناك متسع من الوقت للتحرك، إلا أن تأخر المملكة المتحدة في اتخاذ الخطوات اللازمة قد يجعل تلك الرفوف نصف الفارغة الآن واقعاً دائماً.




Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى