عالمي

أزمات الاقتصاد الألماني تخيم على الانتخابات البرلمانية

تعيش ألمانيا حالاً من الركود حيث تآكلت قوة الاقتصاد الأكبر في أوروبا بسبب الأحداث والمنافسة العالمية، وسلط الركود الاقتصادي الضوء على قضية الهجرة التي يرى كثير من الناخبين الألمان أنها تعمق مشكلات البلاد الاقتصادية وتفاقم التوترات الاجتماعية.  والسؤال المفصلي لدى الناخب الألماني وهو يتجه نحو صناديق الاقتراع لانتخاب برلمان جديد سيحدد كيفية إدارة البلاد خلال الأعوام الأربعة المقبلة يدور حول لماذا أصبح الاقتصاد الألماني الذي كان يعد قوة اقتصادية كبرى في هذا الوضع المتدهور؟

انكمش الاقتصاد الألماني 0.2 في المئة وفقاً للأرقام الرسمية التي صدرت الشهر الماضي، وكان هذا هو العام الثاني على التوالي من التراجع بعد انخفاض 0.3 في المئة عام 2023، والأكثر دلالة هو أن اقتصاد ألمانيا خلال الربع الأخير من العام الماضي كان أصغر قليلاً بـ0.1 في المئة مقارنة بنهاية عام 2019، وهو المستوى الذي كان عليه قبل تفشي جائحة “كوفيد-19”.

وتُعد ألمانيا الدولة الوحيدة في “مجموعة السبع” التي لم تستعد مستواها الاقتصادي قبل الجائحة، فلم تُصب بضرر كبير مثل كثير من البلدان الأخرى جراء فيروس كورونا، فانكمش اقتصادها بنحو 4.5 في المئة عام 2020 لكن تعافيها كان فاتراً، وخلال العامين الماضيين لم يحدث أي تحسن يُذكر.

ووفقاً لرئيسة مكتب الإحصاء الفيدرالي الألماني روث براند فإن “الضغوط الدورية والهيكلية وقفت في طريق تطور اقتصادي أفضل عام 2024، وتشمل هذه الضغوط التنافس المتزايد لصناعة الصادرات الألمانية في أسواق البيع الرئيسة وارتفاع كلفة الطاقة ومستويات أسعار الفائدة، إضافة إلى التوقعات الاقتصادية غير المؤكدة، وفي هذا السياق انكمش الاقتصاد الألماني مرة أخرى عام 2024”.

ويتوقع الاتحاد الأوروبي انتعاشاً طفيفاً هذا العام بزيادة في الناتج المحلي الإجمالي بـ 0.7 في المئة، لكن ألمانيا خيبت الآمال في السابق ويخشى كثير من الاقتصاديين أن تفعل ذلك مرة أخرى، وأظهر أحدث استطلاعات مديري المشتريات التي صدرت الجمعة الماضي أن الاقتصاد عاد للنمو الطفيف خلال الأسابيع الأولى من هذا العام لكنه لا يزال هشاً.

وأحد العوامل التي تعوق نمو الناتج المحلي الإجمالي هو إنفاق المستهلكين الذي ارتفع 0.3 في المئة فقط خلال العام الماضي، على رغم أن نمو الأجور قد تجاوز التضخم بشكل مريح وانخفض 0.4 في المئة عام 2023، واليوم أصبح المستهلكون الألمان التقليديون الذين يتمتعون بحذر كبير أكثر توجساً، في حين أظهر مؤشر مناخ المستهلكين “جي أف كي نيم” الذي نُشر نهاية الشهر الماضي أن العام بدأ بما وصفه القائمون على المؤشر بـ “بداية غير مستقرة”.

وقال المتخصص في شؤون المستهلكين في “إن آي أم” رولف بيركل لصحيفة “تايمز” إن “مناخ المستهلكين تعرض لانتكاسة أخرى وبدأ بصورة متشائمة خلال العام الجديد، ومنذ منتصف العام الماضي شهدنا اتجاهاً متوقفاً على أفضل تقدير، بينما خلال النصف الأول من عام 2024 كانت هناك إشارات تشير إلى تعاف، ومع ذلك لا يوجد حالياً أي مؤشر على تعاف مستدام وبخاصة مع ارتفاع معدل التضخم أخيراً”.

الصناعة الألمانية النضالية

تأسس النجاح الاقتصادي الحديث لألمانيا على التصنيع وقدرتها على تصدير منتجاتها إلى جميع أنحاء العالم بدعم من سعر صرف تنافسي لليورو، لكن الآلة الصناعية الألمانية تواجه صعوبات فقد انتهى الإنتاج الصناعي العام الماضي بتراجع قدره 2.4 في المئة و3.1 في المئة مقارنة بالعام السابق، في حين أن الإنتاج الصناعي باستثناء الطاقة والبناء، وهو الناتج التصنيعي، أقل بـ 15 في المئة مما كان عليه قبل الجائحة مباشرة، وأقل بـ 20 في المئة من ذروته الأخيرة منتصف عام 2018.

وإحدى طرق قياس أداء التصنيع في ألمانيا هو مؤشر مديري المشتريات، استطلاع رأي تجمعه “أس أند بي” برعاية “بنك هامبورغ التجاري”، وكشف عن تراجع حاد في الإنتاج الصناعي منذ منتصف عام 2022 مما وضع ألمانيا في وضع غير عادي من حيث أداءها الصناعي الأضعف في منطقة اليورو.

وقال كبير الاقتصاديين في “بنك هامبورغ التجاري” سايروس دي لا روبيا إن “الخوف من الرسوم الجمركية الأميركية والانتخابات المفاجئة وارتفاع حالات الإفلاس ليس بالوصفة المثالية لإنهاء الركود في قطاع التصنيع”، مضيفاً أنه “مع وجود هذه البيئة الصعبة فليس من المفاجئ أن يكون مؤشر مديري المشتريات للتصنيع لا يزال في المنطقة الحمراء، مما يشير إلى استمرار التراجع الذي بدأ منذ منتصف عام 2022”.

وعلى رغم وجود دلائل على أن التراجع قد يبدأ في الاستقرار لكن القلق يكمن في أن أي انتعاش قد يقضى عليه بسبب الرسوم الجمركية التي يفرضها الرئيس الأميركي ترمب على الواردات الأميركية، ويشير كبير الاقتصاديين في بنك “بيرينبيرغ” هولجر شمييدينغ إلى أن صادرات السلع الألمانية تتراجع متأثرة بانخفاض المبيعات إلى الصين. وكانت الصادرات إلى الولايات المتحدة بدأت في التعافي لكنها مهددة بالحماية التجارية الأميركية، واليوم تعاني آلة التصدير الألمانية القوية سابقاً من تراجع حاد.

لم تعد تقود السيارات

لطالما كانت صناعة السيارات رمزاً لقوة الاقتصاد الألماني ومشكلاتها تعد مؤشراً قوياً على مصاعب الاقتصاد الألماني، إذ أنتجت ألمانيا 4.1 مليون سيارة العام الماضي، أي خمس مرات أكثر مما أنتج في بريطانيا، لكنها تمثل ثلثي الإنتاج الصناعي الأقصى الذي بلغ 6 ملايين سيارة خلال العقد الماضي، بينما كان تراجع صناعة السيارات في بريطانيا أكبر حيث بلغ الإنتاج العام الماضي 45 في المئة فقط من مستويات عام 2016، إلا أن هذه الصناعة لم تعد تشكل أهمية كبيرة بالنسبة إلى بريطانيا كما كانت سابقاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتعزى مشكلات صناعة السيارات الألمانية التي أسفرت عن إغلاق بعض المصانع إلى عدم قدرتها على التكيف بنجاح مع عصر السيارات الكهربائية، إذ تتفوق الصين عليها في هذا المجال.

وكثيراً ما كانت الصين سوقاً مهمة للمصنعين الألمان، لكن هناك الآن جانب من الفارغ في محاولة بيع السيارات الكهربائية في هذا السوق.

وتجلت مشكلات صناعة السيارات في ألمانيا أخيراً حين أعلنت “مرسيدس” عن انخفاض بـ 25 في المئة في مبيعات السيارات الكهربائية العام الماضي ضمن انخفاض إجمالي بسبعة في المئة في الصين، وتسعة في المئة في السوق الألمانية، في حين تراجعت الأرباح الصافية 28 في المئة، وأعلنت “مرسيدس” أنها ستعيد الآن بعض إنتاجها للسيارات التي تعمل بالبنزين والديزل.

من جانبه ألقى الرئيس التنفيذي لمجموعة “فولكس فاغن” أوليفر بلوم اللوم على عقود من المشكلات الهيكلية التي تعانيها الشركة مما أدى إلى أزماتها العميقة وتراجع مبيعاتها.

هل ستخفف الحكومة الجديدة من قيود الديون؟

تتمثل إحدى الفروق الكبيرة بين ألمانيا والدول الأخرى في “مجموعة السبع” الكبرى، بما في ذلك بريطانيا، في مستويات الديون الحكومية المنخفضة نسبيًا مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، بينما زادت الدول الأخرى من نسب ديونها إلى الناتج المحلي الإجمالي بعد الأزمة المالية وبصورة كبيرة بعد الجائحة، فإن ألمانيا خفضت ديونها من أكثر من 80 في المئة عامي 2008 و2009 إلى أقل من 60 في المئة قبل الجائحة، ومع ذلك دفعت الجائحة نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي للارتفاع لما يقارب 70 في المئة، لكن جرى خفضها مرة أخرى إلى 62 في المئة.

ويرجع الحفاظ على ديون الحكومة الألمانية تحت السيطرة إلى ما يُعرف بــ “فرامل الديون” المثيرة للجدل التي تبنتها الحكومة الألمانية تحت قيادة أنغيلا ميركل عام 2009، ففي ذلك الوقت كانت الأزمة المالية تدفع بالديون إلى ما فوق الحد المسموح به بموجب “معاهدة ماستريخت” (60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي) لذا قررت الحكومة التحرك، وبموجب “فرامل الديون” أو التعديل المتعلق بالموازنة المتوازنة في القانون الألماني الأساس فإنه يُطلب من الحكومة الفيدرالية وجميع الولايات الـ 16 تمويل إنفاقها من إيرادات الضرائب فقط.

ويسمح للحكومة الفيدرالية بتشغيل عجز في الموازنة لكن بنسبة ضئيلة لا تتجاوز 0.35 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وجرى تعليق هذا الإجراء خلال جائحة “كوفيد-19”.

وتنظر الدول الأخرى بحسد إلى مقدار “المجال المالي” أو الفرصة لتعزيز الاقتصاد من خلال خفض الضرائب أو زيادة الإنفاق العام الذي تركته فرامل الديون للاقتصاد الألماني الذي يعاني الركود، في حين يعتقد كثير من الاقتصاديين أن برلين ضحت بنموها الاقتصادي بصورة غير مبررة على مذبح المسؤولية المالية.

والموقف الرسمي لـ “الحزب الديمقراطي المسيحي” (CDU) في ألمانيا هو أنه يجب الحفاظ على “فرامل الديون” رغم الضغوط الشديدة لتخفيفها، وصرح زعيمه فريدريش ميرز والذي من المرجح أن يصبح المستشار المقبل لألمانيا بعد الانتخابات، بأنه قد يكون من الممكن تخفيف هذه الفرامل لكن بهدف زيادة الإنفاق الدفاعي استجابة للأزمة الأوكرانية.

أما المستشار الحالي وزعيم “الحزب الاشتراكي الديمقراطي” أولاف شولتز فيتفق مع هذا الرأي، ومع ذلك فإن أي تخفيف عام لفرامل الديون من أجل تحفيز الاقتصاد الألماني الذي يعاني الركود يبدو أمراً غير محتمل.




Source link

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى